في السنوات الأخيرة، بات من الملاحظ أن مشهد التدخين التقليدي يتراجع لصالح موجة جديدة من الابتكارات الرقمية، يقودها منتج لم يكن مألوفًا قبل عقد مضى، وهو السجائر الإلكترونية. هذا التحول لا يقتصر على الجانب الصحي فحسب، بل يمتد إلى أنماط التفكير، والعادات اليومية، وحتى الثقافة الاجتماعية السائدة في بعض الأوساط. فكيف تحولت هذه الأداة الصغيرة إلى ظاهرة اجتماعية منتشرة بهذا الشكل الواسع؟
التكنولوجيا تخلق بديلاً “أنيقًا”
عند الحديث عن السجائر الإلكترونية، من المهم أن نلاحظ أن التطور الذي شهده هذا المنتج جعل منه شيئًا يتجاوز وظيفته الأساسية. لم يعد الغرض منه مجرد استنشاق النيكوتين بطريقة “أقل ضررًا”، بل بات عنصرًا من عناصر الهوية الشخصية. الشكل الانسيابي، خيارات النكهات المتعددة، إمكانية تخصيص الجهاز وفق الرغبة، كل ذلك ساعد في بناء صورة جديدة للمدخن العصري.
وعلى الرغم من أن البعض يعتبر هذا التحول مجرد “موضة” عابرة، فإن الأرقام تشير إلى واقع مختلف. فالشباب والمراهقون، وحتى فئة الثلاثينيات، باتوا يعتمدون على هذه الأجهزة ليس فقط لتقليل التدخين، بل كوسيلة للتفاعل الاجتماعي. إذ أن مشهد مشاركة جهاز vape في مقهى بات شائعًا كما كان تبادل السجائر في السابق.
محتوى اجتماعي… أم ترويج غير مباشر؟
مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دورًا محوريًا في ترسيخ ثقافة الـ vape. من خلال مقاطع الفيديو التي تعرض مهارات النفخ، إلى المؤثرين الذين يتباهون بأجهزتهم ونكهاتهم المفضلة، أصبح من الطبيعي أن يرى المستخدم العادي عشرات المنشورات المتعلقة بالسجائر الإلكترونية يوميًا.
الخطير في هذا السياق هو أن الترويج لمثل هذه المنتجات غالبًا ما يأتي في ثوب غير مباشر، مما يجعل المتلقي يتشرب الرسائل التسويقية دون وعي حقيقي. فبينما يظهر المؤثر وهو يستخدم جهاز vape في إطار نمط حياة راقٍ، تُغرس في اللاوعي الجمعي فكرة أن استخدام هذه المنتجات جزء من “التميز” أو “التحرر” أو “الشباب الدائم”.
التحديات الصحية… بين الغموض والمغالطات
رغم ما يُروج له من أن السجائر الإلكترونية أقل ضررًا من نظيرتها التقليدية، فإن المجتمع العلمي لا يزال في حالة جدل حول الآثار بعيدة المدى لاستخدام هذه الأجهزة. فحتى الآن، لم تُجمع الدراسات بشكل قاطع على أمان استخدامها طويل الأمد، خاصة مع ظهور حالات التهاب رئوي حاد في بعض الدول نتيجة استخدام سوائل مجهولة المصدر.
الجدير بالذكر أن شركات التصنيع كثيرًا ما تستخدم مصطلحات مثل “خالي من القطران” أو “خالي من أول أكسيد الكربون” لتسويق منتجاتها على أنها صحية، إلا أن هذه العبارات لا تعني بالضرورة أن المنتج آمن بشكل كامل. في الواقع، هناك مئات المركبات الكيميائية التي تُستخدم في سوائل الـ vape، بعضها لا تزال آثارها غير مفهومة بالكامل.
السوق العربية… انفتاح بلا ضوابط
في بعض الدول العربية، يُلاحظ أن الإقبال على السجائر الإلكترونية تزايد بشكل كبير في السنوات الأخيرة. ويُعزى ذلك إلى عدة عوامل: سهولة الحصول على الأجهزة والسوائل، تساهل بعض السياسات الرقابية، والأهم من ذلك، غياب حملات توعية فعالة موجهة للفئة الشابة.
من اللافت أن العديد من المتاجر التي تبيع هذه المنتجات لا تطلب إثبات السن، مما يجعلها متاحة حتى للمراهقين، وهو ما يشكل خطرًا مباشرًا على الصحة العامة. هذا الانفتاح الغير محسوب قد يؤدي إلى جيل جديد من المدخنين، وإن اختلفت أدواتهم.
البُعد النفسي والتأثير العاطفي
البعض قد يتجه إلى السجائر الإلكترونية كبديل نفسي يعوّضه عن التوتر، أو كتقليد لأقرانه، أو حتى بدافع الفضول. وهذا ما يُعرف بالارتباط السلوكي أو العاطفي مع الجهاز، حيث يصبح الـ vape أكثر من مجرد أداة، بل شريكًا يوميًا. في بعض الحالات، قد يؤدي الاعتماد النفسي إلى تعقيد محاولات الإقلاع لاحقًا، حتى لو لم يكن هناك إدمان فعلي على النيكوتين.
من المهم إذًا فهم الدوافع الحقيقية التي تدفع الأفراد، خصوصًا الشباب، لاستخدام هذه المنتجات. فبين من يسعى للهروب من ضغوط يومية، ومن يبحث عن هوية جماعية، تتعدد الأسباب، ولكن النتيجة واحدة: انتشار متزايد.
التربية والمجتمع… أين يكمن الدور الحقيقي؟
يبقى العامل التربوي حجر الزاوية في معالجة هذه الظاهرة. من المهم أن تبدأ التوعية من الأسرة، وليس فقط من خلال “المنع” أو “التحذير”، بل عبر حوار مفتوح يشرح الحقائق ويوضح المخاطر دون تهويل. كما أن للمدارس والجامعات دورًا كبيرًا في تثقيف الطلبة حول هذه المنتجات بطريقة علمية، مدعومة بشهادات حقيقية وتجارب واقعية.
وسائل الإعلام أيضًا يمكن أن تساهم بشكل فعال، لا من خلال نشر الذعر أو التخويف، بل عبر حملات ذكية تستهدف العقول وليس العواطف، تشرح الفرق بين التسويق والحقيقة، وتفضح التناقضات في سرديات الشركات المصنّعة.
ثقافة جديدة… فهل من ضوابط؟
لقد أصبح من الواضح أن ثقافة vape ليست مجرد موجة مؤقتة، بل مظهر من مظاهر التحول السلوكي لدى الشباب. السؤال الحقيقي لم يعد: “هل هذه المنتجات ضارة؟”، بل: “كيف نُدير انتشارها ضمن أطر تربوية وصحية سليمة؟”.
في ظل هذا الواقع، تظهر الحاجة إلى إطار قانوني واضح ينظم بيع وترويج واستخدام السجائر الإلكترونية. معايير جودة للسائل المستخدم، رقابة على عمر المستهلكين، حظر الإعلانات التي تستهدف المراهقين، وتقديم بدائل صحية فعالة لمن يريد الإقلاع عن التدخين… كلها خطوات يمكن أن تصنع فارقًا حقيقيًا.
الصورة الرمزية للتدخين… تتغير
في الماضي، كان التدخين يُنظر إليه على أنه رمز للتمرد أو الأناقة أو حتى النضج، لكن اليوم تغيّرت هذه الصورة تمامًا. فمع تطور الـ vape، لم يعد التدخين محصورًا في الذكور أو في فئة عمرية معينة، بل بات نمطًا يمارسه الجميع، من طلاب الجامعات إلى الموظفين في الشركات.
ومع ذلك، فإن هذا التغيير لا يخلو من التحديات. إذ أن إعادة تشكيل الصورة الرمزية للتدخين يعني بالضرورة أننا نعيد بناء منظومة القيم المرتبطة به. هل هو تعبير عن الحرية؟ أم انسياق خلف توجهات استهلاكية تسويقية؟ هذا السؤال لا يمكن الإجابة عليه بسهولة، لكنه يستحق التفكير.