في العقدين الأخيرين، شهد العالم تحولًا جذريًا في ثقافة التدخين، ولم تعد السيجارة التقليدية وحدها اللاعب الأساسي في هذا المشهد. ظهرت تقنيات جديدة جذبت فئة الشباب تحديدًا، وكان في طليعتها السجائر الإلكترونية، التي باتت اليوم أكثر من مجرد بديل؛ إنها أسلوب حياة، ورمز من رموز العصر الرقمي.
في المقاهي، الجامعات، الشوارع وحتى داخل البيوت، نرى أشخاصًا من مختلف الأعمار يستخدمون هذه الأجهزة الصغيرة التي تطلق بخارًا ذا رائحة حلوة. لكن كيف حدث هذا التحول؟ ما الذي جعل هذا المنتج الجديد ينتشر بسرعة مذهلة في مختلف أنحاء العالم؟
البداية التكنولوجية: من الابتكار إلى الانتشار
يرجع تاريخ السجائر الإلكترونية إلى أوائل الألفينات، عندما قام صيدلي صيني بابتكار جهاز يصدر نيكوتينًا دون احتراق التبغ. في البداية، كانت هذه الأجهزة محدودة الإمكانيات ومكلفة، ولم تلقَ رواجًا واسعًا. لكن مع تطور التقنية وانخفاض تكاليف الإنتاج، أصبحت متاحة على نطاق واسع، وبأشكال وتصاميم تناسب مختلف الأذواق.
لم يقتصر الأمر على الشكل فقط، بل تطورت أيضًا السوائل المستخدمة فيها، والتي تُعرف باسم “النكهات”، فصارت تأتي بمئات الأذواق، من الفواكه إلى القهوة، بل وحتى نكهات غريبة مثل الفشار والنعناع بالفانيلا.
التسويق عبر المؤثرين ومنصات التواصل
من أبرز أسباب انتشار هذه التقنية كان استخدامها الذكي للإعلام الجديد. عوضًا عن الإعلانات التلفزيونية، ركزت العلامات التجارية الكبرى على التعاون مع المؤثرين على منصات مثل إنستغرام ويوتيوب وتيك توك. هؤلاء المؤثرون، الذين يمتلكون ملايين المتابعين، قدموا vape كمنتج عصري، صحي، ومتوافق مع أسلوب الحياة الحديث.
هذا النوع من التسويق لم يكن فقط أكثر فعالية، بل كان أيضًا موجهًا بدقة نحو فئة الشباب، مما جعله ينتشر كالنار في الهشيم، لا سيما في الدول التي تعاني من معدلات تدخين مرتفعة في أوساط المراهقين.
الجانب النفسي والاجتماعي
استخدام السجائر الإلكترونية لا يرتبط فقط بالحاجة للنيكوتين، بل أصبح جزءًا من الهوية الشخصية. الشباب الذين يستخدمونها يعبرون عن ذوقهم واختياراتهم من خلال التصميم والنكهة التي يفضلونها، وكأنهم يختارون هاتفًا ذكيًا أو نوعًا من العطور.
من ناحية أخرى، يشعر كثيرون أن هذه الأجهزة تمنحهم إحساسًا بالسيطرة؛ إذ يمكنهم التحكم في نسبة النيكوتين، التوقف متى شاؤوا، وتجنب رائحة الدخان التقليدي.
بعض الدراسات النفسية أشارت إلى أن vape يقدم شعورًا بالانتماء إلى مجتمع معين، خصوصًا مع توفر منتديات ومجموعات على الإنترنت يتبادل فيها المستخدمون التجارب والنصائح.
التحديات الصحية والتنظيمية
رغم الشعبية المتزايدة، لا تزال السجائر الإلكترونية موضع جدل واسع. في حين يرى البعض أنها أقل ضررًا من السجائر التقليدية، يرى آخرون أن هذا غير كافٍ لتشجيع استخدامها، خصوصًا في ظل نقص الدراسات الطويلة الأمد حول آثارها الصحية.
بدأت العديد من الدول باتخاذ إجراءات تنظيمية صارمة، شملت فرض ضرائب على المنتجات، تحديد أعمار الشراء، بل وحتى حظر بعض النكهات التي قد تجذب القُصّر. كما أصبحت الحكومات أكثر وعيًا بضرورة مراقبة الحملات الإعلانية التي تستهدف الفئات الشابة.
المستقبل: بين الابتكار والتشريعات
من المتوقع أن يستمر سوق السجائر الإلكترونية في النمو خلال السنوات القادمة، مدفوعًا بالابتكار المتواصل في التصميم والنكهات والتقنيات.
لكن في المقابل، من المرجح أن يزداد التدخل الحكومي لضبط هذه الصناعة. سيتعين على الشركات المصنعة الموازنة بين جذب المستهلكين الجدد، والامتثال للمعايير الصحية والتنظيمية المتزايدة.
من النماذج المثيرة للاهتمام، بدء استخدام الذكاء الاصطناعي داخل بعض أجهزة vape لضبط درجات الحرارة تلقائيًا وتوفير تجربة تدخين أكثر أمانًا وتخصيصًا.
كما أن بعض الدراسات الأكاديمية بدأت تركّز على كيفية استخدام هذه المنتجات كأداة للإقلاع عن التدخين، مع تطوير برامج طبية تشرف عليها هيئات صحية رسمية.
تأثير الثقافة المحلية والعالمية
الثقافة تلعب دورًا جوهريًا في طريقة تبني المجتمعات لهذه التقنية. في بعض البلدان العربية، تُواجه السجائر الإلكترونية نظرة محافظة، وتُربط بمفاهيم “الحداثة الزائفة”.
بينما في بلدان أخرى، يُنظر إليها كبديل مقبول اجتماعيًا، بل ومحبذ أحيانًا، خصوصًا في الأماكن العامة التي تُمنع فيها السجائر التقليدية.
يظل التحدي قائمًا في خلق وعي جماعي مبني على المعلومة الدقيقة والتجربة الشخصية بعيدًا عن التأثيرات التجارية البحتة.
هل نحن أمام تحول جذري في مفهوم التدخين؟
ما يحدث اليوم هو أكثر من مجرد موضة أو اتجاه عابر. نحن أمام إعادة تشكيل شاملة لصورة “المدخّن” في المخيلة الجماعية. من الرجل الذي يحمل علبة سجائر ويتفقد الولاعة، إلى شاب يحمل جهاز vape أنيقًا، ويغيّر نكهته حسب مزاجه.